فرنسا تعيش في عزلة أوروبية بسبب نموذجها الاقتصادي والسياسي الذي يبعد الشركاء

تم تحديثه الأربعاء 2025/8/6 07:19 م بتوقيت أبوظبي

في الوقت الذي تبدو فيه الظروف مواتية لتتولى فرنسا دور القيادة داخل الاتحاد الأوروبي، تزداد علامات العزلة السياسية وتراجع الثقة الأوروبية في باريس، مما يثير تساؤلات حول مستقبل العلاقات الأوروبية مع فرنسا.

الخلافات العميقة حول السياسات النووية والموقف من التبعية الأمريكية والنموذج الاقتصادي الفرنسي تُبعد الشركاء الأوروبيين خطوة بعد خطوة عن باريس، رغم دورها المركزي التاريخي داخل الاتحاد، حيث لطالما حذرت فرنسا من الاعتماد الأوروبي المفرط على الولايات المتحدة، لكنها تجد نفسها اليوم في موقف مثالي لإعادة تشكيل دورها الجيوسياسي، خاصة بعد إعادة انتخاب دونالد ترامب، مما أعاد إحياء رؤية شارل ديجول بتحرير أوروبا من “الوصاية الأمريكية”.

ومع ذلك، فإن سلوك فرنسا السياسي وتمسكها بالنموذج المركزي السيادي يواجه توجسًا من العواصم الأوروبية الأخرى، التي تميل بشكل متزايد إلى نماذج أكثر مرونة وشمولية في صنع القرار، ووفقًا لخبير السياسة الإيرلندي إوين دريا، الذي يتابع عن كثب أروقة صنع القرار في بروكسل، تظل باريس تكرس المركزية وحدها رغم الفرص التاريخية المتاحة لإعادة رسم دورها داخل الاتحاد، لكن عوائق تتعلق بأسلوبها السياسي وتقييماتها الاقتصادية تعيق هذا التماسك، كما ورد في صحيفة “ليزيكو” الاقتصادية الفرنسية.

تأتي لحظة فرنسا المنتظرة للتألق في بروكسل وسط ظروف دولية متغيرة قد تسمح لها بإعادة التموضع كفاعل عالمي مؤثر داخل الاتحاد الأوروبي، حيث دأبت باريس على التحذير منذ عقود من مخاطر الاعتماد الزائد على الولايات المتحدة، التي يرى البعض أنها أفقدت أوروبا قوتها واستقلالها منذ بداية الحرب الباردة.

على خلفية التداعيات المباشرة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، والعجز الأوروبي في الاستعداد العسكري الموحد، عززت فرنسا موقعها كمصدر للنفوذ السياسي والدفاعي في بروكسل، فهي الدولة الوحيدة في القارة التي تمتلك قوة نووية تعتمد على إنتاج محلي، مما يؤهلها لتكون قلب “الاتحاد الأوروبي للطاقة”.

بينما قررت ألمانيا تقليص قدراتها النووية تحت تأثير الاعتبارات البيئية، حافظت فرنسا على قوتها النووية، مما يبدو اليوم قرارًا استراتيجيًا صائبًا، وفي الوقت الذي تعجل فيه برلين بزيادة إنفاقها العسكري، تدرس فرنسا بذكاء أول تسوية استراتيجية فرنسية-ألمانية منذ إرساء العملة الموحدة، يرتقب أن تكون مزيجًا بين “قوة نووية” وفرص مالية لصالح أوروبا، ما قد يتيح استخدام “مظلتها النووية” لحماية شركائها داخل الحلف دون الإخلال بسيادتها.

من وجهة نظر محلل السياسة الأوروبية إوين دريا، تفتقد أوروبا اليوم إلى قيادة واضحة تستند إليها في معركتها الاستراتيجية، فرغم التحذيرات المبكرة التي أطلقتها باريس بشأن اعتماد القارة على واشنطن، فإن بقية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باتت تفكر بمنطق اقتصادي وتنافسي بعيدًا عن النزعة الدبلوماسية الفرنسية التقليدية.

يرجع دريا هذا التحول إلى عدم الثقة المتزايدة في نموذج فرنسا التقليدي، الذي يركز على البنية التحتية النووية والتدخل الاستراتيجي ولكنه يغض الطرف عن الابتكار الاقتصادي واستدامة السياسات المالية، فضلاً عن ما يصفه بغرور سياسي يجعل أوروبا تميل إلى التوجه نحو مراكز أكثر مرونة وديمقراطية.

يؤكد دريا أن النموذج الفرنسي في استخدام الطاقة النووية والعسكرية كان يمكن أن يمنح أوروبا استقلالًا فعليًا لو أرفق بإطار تعاون مشترك مع الحلفاء الأوروبيين، إلا أن فرنسا رفضت المشاركة في مجموعة التخطيط النووي لحلف الناتو، ورفضت مشاركة السيطرة على أسلحتها النووية حتى في حال التشاركية في التمويل، مما جعلها تتمسك بسيادتها لكنها تفتقر إلى المصداقية والديناميكية الحقيقية لتعزيز الردع الجماعي داخل الاتحاد الأوروبي.

يرى دريا أن الطبيعة الجيوسياسية لأوروبا اليوم تتطلب تجاوز الخلافات التاريخية والبدء في شراكة أوروبية فعلية تجعل من فرنسا والملكة المتحدة قاعدة ردع نووية متقدمة، ويتوقع أن يفتح مستقبل التعاون الدفاعي، بما في ذلك آليات تمويل مشتركة وتنسيق تقني، الباب أمام اعتماد سياسي يعزز مصداقية الردع الجماعي، والخطر الحقيقي، بحسبه، هو أن تستمر فرنسا في ادعاء القيادة بينما تغرق مصالح دول شرق أوروبا وشعوبها في الشعور بالتهديد وغياب الثقة في باريس.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *