
على مدار أكثر من مئة عام، ظلت مصر محصورة ضمن شريط ضيق يلتف حول نهر النيل، حيث يسكن أكثر من 104 ملايين مواطن على أقل من 7% من مساحة البلاد، وقد تحول هذا التوزيع السكاني غير المتوازن من مجرد أزمة عمرانية أو ضغط على البنية التحتية إلى تهديد وجودي يمس جودة الحياة والأمن الغذائي واستدامة الموارد الطبيعية.
في ظل هذا الواقع القاسي، بدأت مصر في إعادة التفكير في خريطتها، واتباع رؤية جديدة تستهدف استكشاف عمق الصحراء كمساحة مستقبلية للحياة، تتحدى بها إرث الجغرافيا وتفتح أبوابًا جديدة للتنمية والاستقرار.
ممكن يعجبك: محافظ قنا يدعو لتعزيز استخدام الدراجات كبديل للسيارات بعد عودته من العمل بالعجلة
وفقًا للدكتور، الخبير العقاري وعضو مجلس إدارة غرفة صناعة التطوير العقاري، فإن التوجه نحو العمق الصحراوي لم يعد مجرد رفاهية تنموية، بل أصبح ضرورة وجودية، فالتغيرات المناخية المتسارعة، وارتفاع منسوب البحر المتوسط، وتآكل أراضي الدلتا، كلها عوامل تحث الدولة على إعادة توزيع سكانها على خريطة جديدة، مشيرًا إلى أن هذه الاستراتيجية تعتمد على إنشاء مراكز جذب عمرانية وإنتاجية متكاملة، وليس مجرد نقاط تفريغ للسكان، حيث تتوفر فيها سبل الحياة الكريمة من سكن وخدمات وبنية تحتية متطورة، مما يجعلها بيئات جاذبة تسهم في تخفيف التكدس من الوادي، دون الحاجة إلى هجرة السكان.
من نفس التصنيف: المقاولون العرب يعلنون عن تقسيم عقارات مشروع ترميم واجهات كورنيش الإسكندرية إلى 3 مستويات
وبيّن أن الرؤية الطموحة للدولة بدأت تتجسد بالفعل من خلال مشروعات ضخمة تُعيد رسم خريطة التوزيع السكاني في مصر، بدءًا من مشروع المليون ونصف فدان في مناطق مثل غرب المنيا وتوشكى والفرافرة، إلى مدن الجيل الرابع مثل ملوي الجديدة وغرب قنا وأسوان الجديدة، مرورًا بالوادي الجديد كمجال استيطاني متكامل.
ويرى «راشد» أن هذه المشروعات لا تتم بمعزل عن البنية التحتية، بل ترتبط بشبكات طرق استراتيجية ومحاور تنموية تضمن سهولة الوصول، وتُسرّع من وتيرة الاندماج المجتمعي والاقتصادي، فالصحراء لم تعد فضاءً هامشيًا، بل تتحول تدريجيًا إلى امتداد حيوي للدولة.
وأوضح، في تصريحات لـ«بوابة مولانا»، أن ما يحدث على الأرض ليس مجرد توسع عمراني، بل هو مشروع استراتيجي متعدد الأبعاد، حيث تُهيأ المناطق الجديدة لتكون مراكز إنتاجية واقتصادية تدعم الدولة في مواجهة أزمات مثل نقص المياه أو ارتفاع درجات الحرارة أو تآكل الرقعة الزراعية، تُزرع فيها المحاصيل، وتُنشأ محطات الطاقة الشمسية، وتُقام المناطق الصناعية، مما يوفر فرص عمل حقيقية تُعيد صياغة حياة آلاف الأسر، لتثبت أنها تنمية تهدف إلى تحصين الدولة جغرافيًا من المخاطر المستقبلية، عبر توزيع أذكى للموارد والسكان.
وأكد أن التحرك نحو الداخل لا يعيد فقط رسم خطوط على الخريطة، بل يعيد تشكيل علاقة الإنسان بالمكان، فالمصري الذي يسكن الصحراء ويعمل بها، لا يغيّر عنوان سكنه فقط، بل ينشئ انتماءً جديدًا قائمًا على الإنتاج والمشاركة، وليس على التزاحم والتنافس على الموارد، وتتحول هذه النقلة نظرة المواطن إلى الصحراء من كونها أرضًا نائية إلى وطن يحتضن الطموح، لتكون لحظة إعادة بناء للهوية، تمامًا كما هي إعادة توزيع للسكان.
واختتم، حديثه بوصف ما يحدث اليوم في عمق البلاد باعتباره ليس توسعًا جغرافيًا بقدر ما هو توسع في الرؤية، مؤكدًا أن الدولة المصرية تكتب فصلًا جديدًا في تاريخها، تنقل فيه مراكز الثقل من ضفاف النيل إلى قلب الصحراء، وفي الوادي الجديد، وتوشكى، والفرافرة، وغرب قنا، وأسوان الجديدة، لا تُبنى مجرد مدن، بل تُرسم ملامح مصر القادمة، التي لا تكتفي بإدارة أزماتها، بل تصنع مستقبلها بإرادة واضحة، تسعى لتحقيق التوازن بين الإنسان والمكان، وترسّخ مفهوم الأمن الشامل على أرض الواقع.
التعليقات