
د. أيمن سمير.
مقال مقترح: اعتقال قاضية أمريكية بسبب تعطيل احتجاز مهاجر
“كل شيء في عهد دونالد ترامب قابل للمراجعة والتقييم” هذه العبارة جاءت على لسان وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو خلال لقائه بنظيره البريطاني ديفيد لامي في يونيو الماضي، ومن خلال متابعة الشهور السبعة الأخيرة يتضح أن واشنطن تعيد تقييم علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع جميع الدول، بما في ذلك القارة الإفريقية، حيث تتبنى إدارة ترامب “مقاربة جديدة” تختلف تمامًا عن الاستراتيجية التي اتبعتها الإدارة الديمقراطية السابقة بقيادة جو بايدن، بل وتبتعد عن الرؤية التي سعى ترامب لتنفيذها في ولايته الأولى، إذ تنظر الإدارة الحالية إلى إفريقيا باعتبارها “كنز المعادن النادرة” وسط صراع عالمي، بعد أن كانت تُعتبر مجرد ملف أمني، لذا استضاف ترامب قمة عاجلة مع خمسة زعماء أفارقة رغم وجود قمة إفريقية أمريكية مرتقبة في نيويورك بنهاية العام الجاري.
على الرغم من جهود البيت الأبيض لتحسين العلاقات مع روسيا والصين، إلا أن تزايد نفوذ هاتين الدولتين في إفريقيا أصبح مصدر قلق لإدارة ترامب، ولذلك يعمل على ملفات جديدة مثل “إعادة تموضع القوات الأمريكية في إفريقيا”، وإعادة صياغة العلاقات الأمنية والعسكرية مع الدول الإفريقية، مما يمنحها حصة أكبر في النفقات الأمنية تحت شعار “تقاسم الأعباء”، أما اقتصادياً، فلا يرغب ترامب في تقديم أموال أو استثمارات مباشرة، لكنه يدعم مسارات التنمية التي تتبناها الدول الإفريقية دون أن تتحمل واشنطن أي أعباء مالية تحت مسمى “الشراكات الاقتصادية المشروطة”، وفي المقابل، تظل الإدارة الأمريكية منفتحة على “تصفير الصراعات” و”وقف الحروب”، ودعم الدول في مواجهة الجماعات الإرهابية دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية أو الحديث عن الحكم الرشيد وحقوق الإنسان، فما هي المعالم الرئيسية لاستراتيجية ترامب في إفريقيا؟ وما حدود التغييرات المرتقبة للقوات الأمريكية في القارة؟ وكيف تنظر موسكو وبكين إلى هذه الخطوات الأمريكية الجديدة؟
مقال مقترح: «الحوثيون» يعلنون عن استهداف موقعين عسكريين إسرائيليين (التفاصيل)
فرص وتحديات
ساهم تجاهل ترامب لإفريقيا في ولايته الأولى في تعزيز نفوذ منافسي الولايات المتحدة، وخاصة الصين وروسيا، حيث لم يقم ترامب بزيارة إفريقيا خلال سنوات ولايته الأولى، وكان يتحدث عنها بطريقة سلبية، مما أدى إلى سحب القوات الأمريكية من الصومال وبعض القواعد الأخرى في عام 2018، لكن خلال ولاية بايدن، شهدت إفريقيا تطورات كبيرة شكلت تحديات وفرصاً تاريخية للولايات المتحدة، فالتحديات تتجلى في دور إفريقيا الجيوسياسي المتزايد منذ الحرب الروسية الأوكرانية، حيث رفضت معظم الدول الإفريقية التصويت لصالح مشروعات القرارات الأمريكية في مجلس الأمن، وشاركت القادة الأفارقة مع الرئيس الروسي في قمة روسية إفريقية في يوليو 2023، وطردت دول مثل مالي وبوركينافاسو والنيجر القوات الفرنسية، كما رفضت النيجر تمديد بقاء القوات الأمريكية، مما أدى إلى خروج آخر جندي أمريكي من نيامي في سبتمبر 2024، بينما شهدت المدينة مظاهرات تأييد للرئيس الروسي بوتين، إلى جانب بناء قواعد عسكرية روسية في إفريقيا.
فيما حافظت الصين بنهاية 2024 على مكانتها باعتبارها الشريك التجاري الأول للقارة الإفريقية على حساب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث بلغ حجم التجارة بين إفريقيا والصين نحو 296 مليار دولار، مستفيدة من عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية والتركيز على المجالات التجارية والاستثمارية، ومع ذلك، لدى الولايات المتحدة فرص تاريخية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في إفريقيا، فنجاح ترامب في إبرام اتفاق سلام بين رواندا والكونغو الديمقراطية في يونيو الماضي، فتح المجال أمام واشنطن للاستفادة من المعادن النادرة في الكونغو، كما أن تفشي الإرهاب زاد من حاجة الجيوش الإفريقية للدعم الاستخباراتي الأمريكي في مواجهة جماعات مثل “داعش” والقاعدة، ونفوذ الولايات المتحدة في مجموعة العشرين والدول الصناعية الكبرى يجعلها قادرة على المنافسة مع الصين وروسيا على قلب إفريقيا التي شهدت نمواً اقتصادياً ملحوظاً، حيث تُعرف بدول “النمور الإفريقية”، لذلك تتحدث الإدارة الأمريكية عن الالتزام بتعديل بعض الأدوات القديمة، وتقوم استراتيجية ترامب الجديدة على مجموعة من المسارات.
أولاً: تقاسم الأعباء العسكرية
يعتمد نهج ترامب على تقليل الالتزامات العسكرية سواء لحلف “الناتو” أو الشركاء الآسيويين، وكذلك في إفريقيا، فهو ضد المشاركة الأمريكية الواسعة في قوات حفظ السلام في إفريقيا، وضد بناء “قواعد عسكرية” كبيرة كما كان في السابق، ويتبنى رؤية تعتمد على “تقاسم الأعباء” عبر تدريب وتمكين القوات المحلية في الدول الإفريقية الصديقة، حيث يرى البيت الأبيض أن هذا هو النموذج الأفضل لبناء علاقات عسكرية مستدامة، وفي الوقت نفسه، لا يضع أعباء مالية على دافعي الضرائب الأمريكيين، حيث تنفق واشنطن نحو تريليون دولار على الجيش سنوياً، وفي إطار “تقاسم الأعباء” بدأت الإدارة الأمريكية تقييم أداء القيادة الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، كما تحدث قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا الجنرال مايكل لانجلي في مايو الماضي، ويأتي هذا التحول في ظل رفض العديد من الدول الإفريقية التعاون مع “أفريكوم”، مثل النيجر التي طردت القوات منها، مما دفع البنتاغون للتفكير في دمج “أفريكوم” مع القيادة الأمريكية في أوروبا “يوكوم”، رغم اعتراض عدد من أعضاء الكونغرس، حيث يعتبرون أن هذا يشكل خطراً على الأمن في إفريقيا بسبب الجماعات المسلحة وزيادة النفوذ العسكري الروسي، لكن المفهوم الحقيقي لـ”تقاسم الأعباء” يراه البنتاغون في ضرورة مشاركة الدول الإفريقية في حفظ الأمن، وعدم الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة، حتى تستطيع الجيوش الإفريقية قيادة العمليات العسكرية بمفردها، ويتحقق هذا من خلال مزيد من المخصصات من الحكومات الإفريقية لشراء السلاح الأمريكي وتدريب الجيوش الوطنية.
ثانياً: الاتفاقيات المباشرة
لا تميل إدارة ترامب إلى عقد الصفقات متعددة الأطراف في إفريقيا، بل تسعى فقط لعقد اتفاقيات مباشرة ثنائية أو على نطاق ضيق، كما هو الحال مع الاتفاقية التي يتم إعدادها مع الكونغو الديمقراطية، حيث يفضل ترامب التعامل مع خمس دول في غرب إفريقيا بدلاً من 54 دولة إفريقية، ولا تُظهر إدارة ترامب حماساً لتمويل أي نشاط للأمم المتحدة في إفريقيا.
ثالثاً: نهاية المشروطية السياسية
تقوم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه الدول الإفريقية على الابتعاد عن “المشروطية السياسية”، التي كانت تعتمد على التعاون فقط مع الدول التي تطبق الديمقراطية بالمفهوم الغربي، مما أدى إلى ابتعاد الدول الإفريقية عن واشنطن وتقاربها مع موسكو وبكين، حيث يجادل صناع السياسات من الحزب الجمهوري بأن الشروط السياسية الأمريكية هي التي دفعت الدول الإفريقية للارتماء في أحضان الصين وروسيا.
رابعاً: مقاربة اقتصادية جديدة
في عهد بايدن، تعهدت الولايات المتحدة بدعم اقتصادي كبير لإفريقيا بنحو 5.5 مليار دولار، واستثمرت واشنطن مليارات أخرى في مشروعات البنية التحتية مثل “ممر لوبيتو” الذي يربط شرق القارة بغربها عبر السكك الحديدية، لكن ما يطرحه ترامب الآن هو الحصول على المعادن النادرة مقابل دعم معلوماتي واستخباراتي وعسكري للأفارقة، مع تقديم صفقات اقتصادية ليست مجانية، بل تعتمد على “مقايضة صريحة”، حيث تقدم إفريقيا مواردها الطبيعية وتبتعد عن روسيا والصين مقابل صفقات مع ترامب، ومن خلال هذه الاستراتيجية تحقق الولايات المتحدة هدفين، الأول إضعاف النفوذ الروسي والصيني، والثاني تحقيق مكاسب للاقتصاد الأمريكي، حيث تنتج إفريقيا نحو 70% من الكوبالت و60% من المانغنيز و90% من البلاتين المستخدم في الصناعات الدقيقة، مما يجعل إفريقيا محوراً استراتيجياً في معادلة الأمن الاقتصادي العالمي، حيث يساعد تأمين احتياجات واشنطن من المعادن النادرة في تقليل الضغوط التفاوضية من الصين، لذا تتبنى الرؤية الأمريكية “الصفقات التجارية” بدلاً من نمط المساعدات السابق.
خامساً: مكانة خاصة لغرب إفريقيا
كانت الاستراتيجيات الأمريكية السابقة تركز على قضايا أمنية وتنموية في جنوب الصحراء، لكن الاستراتيجية الجديدة تعطي دول “غرب إفريقيا” مكانة خاصة، فرغم الاتفاق على عقد القمة الأمريكية الإفريقية في سبتمبر القادم في نيويورك، إلا أن البيت الأبيض عقد قمة طارئة في يوليو الماضي جمعت خمس دول في غرب إفريقيا، حيث تعتبر هذه الدول غنية بالفرص والتحديات، ففي الوقت الذي يتصاعد فيه نفوذ المجموعات الإرهابية في الساحل الغربي، تحتوي هذه المناطق على المعادن النادرة التي تحتاجها الولايات المتحدة بشدة، ويرغب البيت الأبيض في أن يكون تعاون هذه الدول مع الولايات المتحدة أكثر من روسيا والصين في مجالات المعادن النادرة ومحاربة داعش والقاعدة وبوكو حرام، لذلك تحدث ترامب عن “المصالح الأمريكية” مع هذه الدول، حيث كان عنوان القمة “مؤتمر الفرص التجارية”، مما يعكس الرغبة الأمريكية في بناء علاقات تجارية قوية مع دول الساحل الغربي، كما أكد وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو أن بلاده “لم تعد تقدم أعمالاً خيرية”، مما يدل على نهاية عصر المساعدات، وأن رؤية “أمريكا أولاً” تبحث عن المصالح التجارية بعيداً عن المساعدات غير المشروطة السابقة، ولا يمكن فصل الأسباب الأمنية والعسكرية عن هذا التحرك الأمريكي السريع، حيث تشير الحسابات الأمريكية إلى أن التعاون الصيني مع دول غرب إفريقيا في مجال الموانئ قد يشكل تهديدًا عسكريًا، حيث يمكن أن تبني الصين قواعد عسكرية على الساحل الإفريقي الغربي، مما يثير مخاوف من استهداف مدن الساحل الشرقي للولايات المتحدة مثل نيويورك من الساحل الغربي لإفريقيا.
التعليقات